«"أنا أحيا، ولكن ليس أنا، بل المسيح يحيا فيّ" (غلاطية 2: 16، 19-21)

يشارك

قراءة من رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية

أيها الإخوة،,

لقد فهمنا أنه ليس بالعمل حسب ناموس موسى يتبرر الإنسان أمام الله، بل بالإيمان بيسوع المسيح فقط. لذلك آمنا نحن أيضًا بالمسيح يسوع، لكي نتبرر بالإيمان بالمسيح، وليس بالعمل حسب الناموس، لأنه بالعمل حسب الناموس لا يتبرر أحد.

لقد متُّ عن الناموس لأعيش لله، ومع المسيح صُلِّبتُ على الصليب.

أنا أحيا، لا أنا، بل المسيح الذي يحيا فيّ. ما أحياه الآن في الجسد، أحياه بالإيمان بابن الله الذي أحبني وبذل نفسه لأجلي.

لا أريد أن أُبطل نعمة الله، لأنه إن كان البر بالناموس، فمات المسيح عبثًا.

العيش في المسيح خارج نطاق الناموس

الإيمان بيسوع المسيح، حياة جديدة تتجاوز الشريعة الموسوية.

هناك رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية تحمل هذه المقالة رسالةً جوهريةً لجميع المؤمنين: الإيمان بيسوع المسيح يُحرّرنا من عبودية الناموس، مُمكّنًا إياه من البرّ الذي يأتي من الله. وهي مُوجّهةٌ لمن يسعون إلى فهم دور الإيمان في الحياة المسيحية، بين الناموس والنعمة، واختبار المسيح في نفوسهم يوميًا. باستكشاف نص غلاطية ٢: ١٦، ١٩-٢١، تدعونا إلى تحوّلٍ عميق، مُجدّدةً علاقتنا بالله والعالم.

أولاً، سيتم تقديم سياق تاريخي وأدبي لتحديد موقع هذا المقطع. ثم سيتم عرض تحليل للتناقض بين الشريعة والإيمان والديناميكية الروحية لهذا الإيمان بالمسيح. بعد ذلك، سيتم استكشاف ثلاثة مجالات موضوعية للبر بالإيمان، والموت عن الذات في المسيح، والآثار العملية على الحياة المسيحية. ستوضح نظرة على التراث اللاهوتي هذه النقاط. وأخيرًا، ستشجع اقتراحات للتأمل وخاتمة القراء على تجسيد هذه الحياة.

سياق

كتب الرسول بولس رسالة غلاطية ردًا على أزمةٍ في كنيسة غلاطية، حيث أراد اليهود فرض الشريعة الموسوية، بما فيها الختان، على المؤمنين من غير اليهود. يلخص هذا المقطع المحوري (٢: ١٦، ١٩-٢١) جوهر الخلاف: يؤكد بولس أنه لا أحد بارٌّ أمام الله باتباع الشريعة، بل بالإيمان بيسوع المسيح فقط.

تاريخيًا، شكّلت شريعة موسى أساسًا دينيًا وجماعيًا أساسيًا للشعب اليهودي. بالنسبة للمسيحيين الأوائل، وخاصةً من أصول وثنية، كان السؤال المطروح هو: هل ستبقى هذه الشريعة مُلزمة؟ يُشدد بولس، رسول الأمم، على الانشقاق الجذري الذي بدأ بموت موسى و... القيامة من المسيح: لم يعد الأمر يتعلق بإطاعة سلسلة من الوصفات، بل بحياة جديدة نتلقاها من خلال الإيمان.

يقول المقطع: "بالناموس مُتُّ للناموس لأحيا لله، وصُلبتُ مع المسيح. لا أحيا أنا بعد، بل المسيح يحيا فيّ. وما أحياه الآن في الجسد، أحياه بالإيمان بابن الله الذي أحبني وبذل نفسه لأجلي". ويؤكد أن الإيمان بالمسيح يُحوّل وجود الإنسان بأكمله إلى اتحاد حيّ مع من بذل نفسه حبًا.

في السياق الليتورجي والروحي، يُقرأ هذا النص غالبًا بالتزامن مع الاحتفال بالنعمة الإلهية، التي تُحررنا من الخطيئة والخوف من الدينونة، وتدعونا إلى حياةٍ يُرشدها الروح القدس. ولاهوتيًا، يُرسّخ هذا النص أولوية النعمة والإيمان، أساسَي الحياة المسيحية.

يدعونا هذا النص منذ البداية إلى التأمل في الطبيعة العميقة للعدالة أمام الله: فهي لا تُشترى بالأعمال أو بالناموس، بل تُقبل، وتُعاش بالإيمان بالمسيح الحي، سعياً إلى تجسيد هذه الحياة الجديدة حيث يتخلى "الذات" عن الطريق للمسيح.

تحليل

الرسالة الرئيسية لهذا النص هي ثورة روحية: فالتبرير أمام الله لا يُنال بأعمال الناموس، بل بالإيمان بيسوع المسيح وحده. هذا الإيمان ليس مجرد اعتقاد، بل علاقة حية ومُغيّرة.

يُقارن بولس هنا بين نظامين: نظام الناموس الذي يُرسخ البرّ بجهد الإنسان، ونظام الإيمان الذي يُرسّخ البرّ بالنعمة. يقول إن للناموس وظيفةً تمهيديةً، لكنه لا يُخلّص لأنه لا أحد يستطيع الالتزام به تمامًا. أما الإيمان بالمسيح، فيُحرّر من هذه الاستحالة بالمشاركة في عطية الحياة الإلهية.

المفارقة هي أنه لكي نعيش هذا الإيمان، يجب علينا أولاً أن نموت عن الناموس - موتًا رمزيًا لـ"الإنسان القديم" الذي اعتمد على قوته الذاتية. يقول بولس: "لقد صُلبتُ مع المسيح". هذا الصلب هو شكل من أشكال التخلي عن الذات لإفساح المجال لحياة جديدة، حيث "يحيا المسيح فيّ". وهذا يكشف عن ديناميكية من الانغماس في الذات واتحاد روحي.

روحيًا، نطاقه واسع: الإيمان هو فعل ثقة بمن بذل نفسه حبًا. لم يعد التزامًا بالقواعد، بل علاقة حب تتجذر فيها الحياة المسيحية. وهكذا تصبح الحياة المسيحية مشاركة في الموت وفي... القيامة المسيح يفتح الطريق للتجديد الداخلي.

يتضح إذًا أن رفض هذه النعمة يُعدّ إنكارًا لعمل المسيح، فلو كان البرّ يُكتسب بالناموس، لكان موت يسوع عبثًا. هذا الإيمان الحيّ يُشرك الكائن كله، من القلب إلى الحياة اليومية، ويدعو إلى ثقة تامة.

«"أنا أحيا، ولكن ليس أنا، بل المسيح يحيا فيّ" (غلاطية 2: 16، 19-21)

العدالة من خلال الإيمان: هبة نتلقاها وليس انتصارًا

العدالة التي يتحدث عنها بولس هي عدالة إلهية، عدالة تُمنح مجانًا، تتجاوز مجرد الالتزام القانوني. تُكتسب بالإيمان، وهي ثقة تُحوّل الحكم الإلهي إلى غفران وصداقة. وهذا يُقلب المفهوم التقليدي للدين، الذي اعتبر الأعمال وسيلةً للوصول إلى الله.

هذا البرّ بالإيمان يُحرّرنا من خوفنا الدائم من التقصير، ويفتح لنا أبواب حياةٍ من الحرية الداخلية. وهو يدعو إلى التزامٍ صادق، لا بقانونٍ مُحدّد، بل بشخصٍ واحد، هو يسوع المسيح. هذا المفهوم مصدر رجاءٍ وسلامٍ لكلّ مؤمنٍ يكتشفه. حب والنعمة.

الموت عن الذات والولادة في المسيح: ديناميكية التحول

يُعبّر بولس هنا عن فعل روحي جذري: "بالناموس، مُتُّ للناموس". ويعني بذلك أنه لكي نعيش في الله، يجب أن نموت عن الطريقة القديمة في تبرير الذات، عن "الذات" التي تُركّز على القواعد والأداء. هذا الموت هو موت الذات القديمة الخاطئة، المصلوبة مع المسيح.

لكن من هذا الموت تولد حياة جديدة، حيث يسكن المسيح نفسه في أعماق الإنسان. وهذا لا يعني تغييرًا أخلاقيًا فحسب، بل تحولًا وجوديًا عميقًا، حيث يصبح الإيمان مصدر الحياة نفسها. إنها دعوة لندع المسيح يحيا في كل لحظة.

إن تجربة الصلب والولادة الجديدة هي محور الروحانية المسيحية، حيث لا يعد التحول مجرد تغيير في العقل، بل هو انقلاب صوفي وحيوي.

التطبيقات العملية: عيش الإيمان في الحياة اليومية

العيش وفقًا لهذا النص يعني دمج هذا الإيمان الحي بالمسيح في جميع أفعالنا وخياراتنا وعلاقاتنا. لا يعني رفض الأخلاق، بل العيش بها ليس بدافع الالتزام، بل استجابةً لـ حب تلقى.

هذه الحياة الجديدة تدعو إلى الثقة في وجه المحن، وإلى رجاء راسخ، وإلى دافع حب يتجاوز القواعد. إنها تدعو إلى تضامن لا يقوم على القانون، بل على النعمة.

في الحياة الاجتماعية، يتحدى هذا الإيمان كل أشكال التشدد والإقصاء والحكم. إنه يفتح الطريق للمغفرة والحرية الداخلية، ورسالة حبٍّ حرٍّ يُغيّر العلاقات الإنسانية.

التراث والفكر الكلاسيكي

نجد صدى نص غلاطية 2: 16-21 في التقليد الآبائي واللاهوتي. القديس أوغسطين, على سبيل المثال، تأمل مطولاً في النعمة والإيمان باعتبارهما أساس العدالة المسيحية، وأصر على أن الناموس يهيئ لمجيء المسيح لكنه لا يستطيع أن يبرر.

كما طور توما الأكويني التمييز بين العدالة الطبيعية (المكتسبة) والعدالة الإلهية (المنقوعة)، مؤكداً أن الإيمان هو العين التي تفتح على هذه العدالة المعطاة بالنعمة.

في الليتورجيا، يُلهم هذا المقطع الثقة والتسليم، كما في صلوات التوبة والارتداد، على سبيل المثال. تُشدد الروحانية المعاصرة، وخاصةً في حركات التجديد، على هذه التجربة المتمثلة في إيمان حيّ يُغيّر الفرد.

وهكذا فإن التراث المسيحي يدعونا اليوم أيضًا إلى أن نجعل من الإيمان طريقًا للاتحاد والتحول الداخلي، ونعيش دعوة بولس إلى "الموت عن الذات" حتى يتمكن المسيح من العيش فينا.

مسار التأمل: تجربة المسيح داخل الذات

  1. الاعتراف بأن العدالة لا تأتي من جهودنا، ولا من الناموس، بل تأتي فقط من الإيمان بيسوع المسيح.
  2. التأمل في موت الإنسان القديم في الداخل، وقبوله بموقف الاستسلام و’التواضع.
  3. أن نفتح أنفسنا كل يوم للحضور الحي للمسيح الذي يسكن فينا.
  4. فليغذّي الإيمان جميع أعمالنا، استجابةً لـ حب عن المسيح.
  5. ارفض أي إغراء لإصدار أحكام قانونية عن نفسك أو عن الآخرين.
  6. تغيير وجهة نظرنا تجاه الصعوبات: تصبح مكانًا للنمو في الإيمان.
  7. تجديد التزام الثقة بالنعمة التي تدعم الحياة المسيحية.

خاتمة

يدعونا هذا المقطع من رسالة غلاطية إلى ثورة داخلية: أن نموت عن الناموس لنحيا في المسيح، لا بقوتنا الذاتية، بل بحياته التي تُنعش فينا بالإيمان. إنها دعوة إلى الحرية وإلى... وفاء إلى نعمة لا متناهية، لحياة ديناميكية، مليئة بالمعنى والحب.

يدعونا إلى التخلي عن كل شريعة، والعيش بكامل إرادتنا في نور الإيمان، فنسمح للمسيح أن يسكن قلوبنا. هذا التحول هو عمل روحي شخصي، ورسالة اجتماعية قائمة على العدل والسلام.

إن اتخاذ هذه الخطوة يعني الدخول في عهد جديد حيث يكون المسيح نفسه هو حياتنا، وبرنا، ورجاءنا.

نصائح عملية

  • تأمل في هذا المقطع يوميًا لتعميق إيمانك بالمسيح الحي.
  • ارفض الكمال الديني، وتقبل النعمة.
  • يمارس’التواضع من خلال الاعتراف بالحاجة إلى الإيمان.
  • احتضن التحديات باعتبارها فرصًا لتنمية الثقة.
  • الدخول في علاقات مبنية على حب وليس على القانون.
  • ادعُ الناس إلى الصلاة الشخصية للسماح للمسيح أن يعيش فيهم.
  • ناقش في مجموعة مسيحية آثار الإيمان على العدالة.

عبر فريق الكتاب المقدس
عبر فريق الكتاب المقدس
يقوم فريق VIA.bible بإنتاج محتوى واضح وسهل الوصول إليه يربط الكتاب المقدس بالقضايا المعاصرة، مع صرامة لاهوتية وتكيف ثقافي.

اقرأ أيضاً

اقرأ أيضاً