في تلك الأيام، قال دانيال لنبوخذنصر: "أيها الملك، هذه رؤياك: تمثالٌ عظيمٌ واقفٌ أمامك، تمثالٌ عظيمٌ، شديدُ البهاءِ ومُهيبٌ المنظر. رأسه من ذهبٍ خالص، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد، وقدماه بعضهما من حديد وبعضهما من خزف.
وبينما كنتم تنظرون، قُطع حجر من الجبل، ولكن ليس بأيدي بشرية. ضرب الحجر قدمي التمثال المصنوعتين من حديد وخزف فسحقهما. فتحوّل الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب إلى مسحوق، صار كالقشّة التي تطير في موسم الحصاد الصيفي، فحملتها الرياح دون أن تترك أثرًا. أما الحجر الذي ضرب التمثال، فصار جبلًا ضخمًا غطّى الأرض كلها.
هذا هو الحلم، والآن أمام الملك نبين تفسيره. لك يا ملك الملوك، إله السماء قد وهبك ملكًا وقوةً وسلطانًا ومجدًا. لك سلطان على البشر، وعلى وحوش البرية، وعلى طيور السماء أينما حلت. جعلك حاكمًا على كل شيء: أنت الرأس الذهبي.
بعدك ستقوم مملكة أخرى، أقل شأناً من مملكتك، ثم مملكة ثالثة، مملكة نحاسية تحكم الأرض كلها. ثم تأتي مملكة رابعة، صلبة كالحديد. وكما يكسر الحديد ويسحق كل شيء، كذلك يسحق ويحطم جميع الممالك.
رأيتَ القدمين، وهما جزء من خزف وجزء من حديد: حقًا، ستنقسم هذه المملكة، وسيكون لها قوة الحديد، كما رأيتَ الحديد مختلطًا بالخزف. هاتان القدمان، جزء من حديد وجزء من خزف، تدلان على أن المملكة ستكون جزءًا قويًا وجزءًا هشًا. رأيتَ الحديد مختلطًا بالخزف لأن الممالك ستتحد بتحالفات زواج؛ لكنها لن تتماسك، كما أن الحديد لا يلتصق بالخزف.
لكن في أيام هؤلاء الملوك، سيقيم إله السماء مملكةً لن تزول أبدًا، ولن يؤول ملكها إلى شعبٍ آخر. هذه المملكة الأخيرة ستسحق وتُبيد جميع الممالك الأخرى، لكنها ستبقى إلى الأبد. كما رأيتَ حجرًا مقطوعًا من جبل، بغير يدٍ بشرية، فحطم الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب.
كشف الإله العظيم للملك عما سيحدث لاحقًا. الحلم صادق، والتفسير موثوق.»
الترحيب بالمملكة الراسخة: الحجر الذي يُسقط الإمبراطوريات
إن إعادة قراءة تمثال نبوخذ نصر تساعدنا على تمييز ملكوت الله الذي يعبر التاريخ البشري ويحكم عليه ويغيره.
حلم نبوخذنصر، كما فسّره دانيال، هو من أبرز الرؤى في الكتاب المقدس: تمثال ضخم مصنوع من معادن متحللة، أسقطه حجر غامض، فصار جبلًا يملأ الأرض. هذه الرواية، التي تُقرأ غالبًا كمفتاح للتاريخ العالمي، تطرح سؤالًا جوهريًا على المؤمنين اليوم: على أي ملكوت يرتكز رجائنا حقًا؟ هذه المقالة موجهة لكل من يسعى إلى التوفيق بين الوعي السياسي، والوفاء بالكتاب المقدس، والرغبة في ملكوت لا يزول.
- السياق التاريخي والروحي لحلم دانيال والتمثال.
- تحليل لاهوتي للتمثال والممالك والحجر.
- ثلاثة مواضيع: هشاشة الإمبراطوريات، ولادة الملكوت، والأمل المسيحي.
- أصداء في التقليد المسيحي والحياة الروحية المعاصرة.
- مسارات ملموسة للعيش اليوم كمواطنين في مملكة لا تتزعزع.
سياق
ال كتاب دانيال يبدأ الكتاب بصدمة: السبي البابلي، وانهيار مملكة داود، وتدمير القدس. يجد شعب العهد نفسه في أرض غريبة، خاضعًا لسلطة نبوخذنصر الساحقة، "ملك الملوك" في نظر الأمم. في هذا السياق، يُطرح السؤال المُلِحّ: من يحكم التاريخ حقًا؟ آلهة بابل أم إله إسرائيل؟ تبرز قصة التمثال تحديدًا كرد فعل قوي ورمزي على هذه الأزمة.
رأى نبوخذنصر حلمًا أزعجه بشدة: تمثال ضخم، مُرعب، باهر. رأسه من ذهب خالص، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من برونز، وساقاه من حديد، وقدماه مزيج من الحديد والطين. هذا البناء الهابط، من أثمن ما يكون إلى أهشه، يُوحي بتدهور تدريجي: ينهار المجد الأولي، وتتشقق صلابته، ويستقر التمثال الضخم في النهاية على قاعدة غير مستقرة. يخفي هذا المظهر المهيب هشاشةً جوهرية.
بينما كان الملك يتأمل التمثال، انكسر حجر من جبل، "دون أن يلمسه أحد". هذه التفصيلة بالغة الأهمية: هذا الحجر ليس من صنع البشر، ولا نتيجة استراتيجية سياسية أو عسكرية. إنه قادم من مكان آخر، من الله، ويظهر في التاريخ دون أن يمر عبر آليات القوة الاعتيادية. يضرب قدمي التمثال، نقطة التقاء قوة الحديد وضعف الطين، فيسحق البناء بأكمله. الحديد والطين والبرونز والفضة والذهب تجرفها الرياح ككرة تحملها: لا أثر لهذه الممالك التي يُفترض أنها خالدة.
لكن الحجر لا يتلاشى في غبار الإمبراطوريات، بل يصبح صخرة هائلة تملأ الأرض بأسرها. تنتقل الصورة من عمودية التمثال الشامخة إلى أفقية الجبل الممتدّة. لم يعد التاريخ يهيمن عليه نصب تذكاري واحد لمجد ملك، بل واقع ثابت حيّ يسود العالم أجمع برفق وثبات. يستحضر الجبل مسكن الله، منبع الشريعة والحضور والبركة.
ثم يقدم دانيال التفسير. يمثل الرأس الذهبي نبوخذنصر نفسه، الذي وهبه الله الملك والقوة والمنعة والمجد. تليها ممالك أخرى، تُرمز إليها بالفضة والبرونز والحديد، تتعاقب، وتسيطر على بعضها البعض، ثم تنهار في النهاية. تُوصف المملكة الرابعة بأنها قاسية وساحقة وقمعية بشكل خاص، لكنها هي الأخرى عرضة للانقسام والهشاشة: مزيج غير مستقر من الحديد والطين، وتحالفات سياسية، وزيجات أسرية، ومحاولات لتوحيد ما لا يمكن الحفاظ عليه. الإمبراطوريات البشرية، مهما بلغت قوتها، تحمل في طياتها بذور انحلالها.
تتويج هذا التفسير يكمن في هذه العبارة: "في أيام هؤلاء الملوك، سيُقيم إله السماء مملكةً لن تُفنى أبدًا، ولن ينتقل ملكها إلى شعبٍ آخر. ستسحق هذه المملكة الأخيرة وتُبيد جميع الممالك الأخرى، لكنها ستبقى إلى الأبد". لا تُضفي هذه الرواية طابعًا نسبيًا على الإمبراطوريات الأرضية فحسب؛ بل تُعلن عن قيام مملكةٍ من نوعٍ مختلف، مملكةٍ لا تقوم على العنف، بل على مبادرةٍ إلهيةٍ مجانية، يُرمز إليها بالحجر غير المنحوت.

تحليل
يمكن تلخيص الفكرة المحورية لهذا المقطع على النحو التالي: التاريخ البشري، المتسم بتعاقب القوى والأنظمة، يُحكم عليه ويُحوّل في نهاية المطاف من قِبل ملكوتٍ آتٍ من الله، دائمٍ إلى الأبد. يكمن التناقض الجوهري بين التمثال والحجر، بين ما يبنيه البشر لتمجيد أنفسهم، وما يُبدعه الله لخلاصه وتثبيت سيادته.
يجسّد التمثال سحر القوة ووهمها. إنه ضخم، براق، ومرعب. يُثير الإعجاب، كأي دعاية سياسية أو إمبراطورية. يمكن تفسير كل معدن على أنه حقبة، نظام، ثقافة. لكن النقطة الجوهرية تكمن في مكان آخر: حتى الرأس الذهبي، رمز الحكم المطلق ظاهريًا، يخضع لحكم إله "يمنح" الملك والسلطة. سيادة الملك ليست طبيعية ولا مطلقة؛ إنها مُسلّمة، مشروطة، ومؤقتة.
يُجسّد هيكل التمثال ذاته منطق الانحدار. يُفسح الذهب المجال للفضة، والفضة للبرونز، والبرونز للحديد، والحديد لهذا الخليط الغريب مع الطين. كلما تعمقنا، ازدادت المادة صلابة، بل ازدادت هشاشتها إجمالًا. يُحطم الحديد كل شيء، لكن الأقدام المختلطة تكشف عن التناقض الداخلي للإمبراطوريات: فهي تسعى جاهدةً لتكون غير قابلة للتدمير، لكنها تستند إلى التحالفات والتنازلات والمصالح المتضاربة. تُخفي الصلابة الظاهرة شرخًا عميقًا. يتجلى هذا التوتر في العديد من الأنظمة السياسية والاقتصادية والأيديولوجية: قوية من الخارج، ومتصدعة من الداخل.
لكن الحجر يُدخل منطقًا مختلفًا. فهو لا ينتمي إلى نظام المعادن. إنه ينبع من الجبل، مقام الحضور الإلهي والمبادرة. إنه ليس منحوتًا ولا مصقولًا؛ إنه خام، مُعطى، مجاني. لا يُضاف إلى الإمبراطوريات القائمة: لا يصبح معدنًا خامسًا في التمثال. إنه يضرب، ويقلب، ويستبدل. إنه ليس مجرد إمبراطورية أخرى في صراع القوى؛ إنه نوع آخر من الممالك، يكشف عن النسبية الجذرية لجميع الممالك الأخرى.
إن لفتة الحجر التي ضربت القدمين كاشفة: الله يهاجم نقاط الضعف، ومناطق التنازل، حيث تُحافظ الإمبراطوريات بشكل مصطنع. إن حكم الله ليس نزوة، بل كشفٌ للحقيقة: ما لا يقوم عليه لا يصمد. إن تحطيم التمثال لا يدل فقط على سقوط إمبراطورية بعينها، بل على انهيار كل ادعاء بشري باعتبار نفسه نهائيًا ومطلقًا ومؤسسًا لذاته.
لكن النص لا يصور الدمار فحسب، بل يتحول الحجر إلى جبل يملأ الأرض. الصورة ليست صورة قصف أو فناء عقيم، بل صورة نمو وتوسع وانفتاح. هذه المملكة لا تأتي للدينونة فحسب، بل أيضًا للبناء والملء والسكن. إنها لا تنتقل من شعب إلى آخر بمنطق الغزو؛ بل هي منحة ومُنجزة ومُؤسسة من الله نفسه.
وجوديًا، يتحدى هذا المقطع المؤمنَ أن يُفكّر فيما يعتبره "ثابتًا" في حياته. على ماذا يرتكز الرجاء؟ على مهنة، أم وطن، أم نظام، أم اقتصاد، أم هوية ثقافية؟ أم على ملكوتٍ آتٍ من مكانٍ آخر، لا يعتمد على صراعات السلطة، بل على... وفاء من الله؟ يُذكّرنا التمثال بأن حتى أروع المباني قد تختفي دون أن تترك أثراً. يدعونا الحجر إلى التشبث بما تبقى، حتى وإن كان كل شيء آخر ينهار.
إن الأهمية الروحية لهذا النص هي إذن ثنائية: فهو يثقف العين على الوضوح التاريخي، من خلال نسبية كل عبادة سياسية، ويفتح القلب على أمل لاهوتي، متجذر في ملكوت الله، الذي يعمل بالفعل ولكنه لا يزال ينمو في العالم.
الهشاشة البنيوية لجميع الإمبراطوريات
تمثال نبوخذنصر رمزٌ لجميع الأنظمة البشرية التي تدّعي القدرة المطلقة. إنه يتحدث عن بابل، بلا شك، ولكنه يتحدث أيضًا عن جميع "بابل" التي تُخلّد التاريخ. يُذكّر الرأس الذهبي بتلك اللحظات التي ترى فيها الحضارة نفسها قمةً لا تُضاهى في الثقافة والقوة. ومع ذلك، يُصوَّر هذا المجد على أنه زائل: "بعدك، ستقوم مملكة أخرى". هذا "بعدك" يُذكّرنا دائمًا: لا يوجد نظامٌ دائم.
يشير تحول المعادن إلى نوع من الفوضى الروحية. فالبشرية، إذا تُركت لشأنها، لا تتقدم بالضرورة نحو التحسين، بل قد تتأرجح بين الرقي والقسوة، بين التنوير والقمع. الحديد، رمز القوة العسكرية والقدرة التدميرية، يهيمن عند نقطة معينة، لكن هذه القوة لا تعني الاستقرار. تكشف الأقدام الحديدية والصلصالية أن كل بناء بشري، حتى لو كان مدججًا بالسلاح، يرتكز على روابط اجتماعية وعلائقية وثقافية غالبًا ما تكون هشة.
تُجسّد صورة الزيجات السياسية الإغراءَ المُستمرّ لترسيخ الوحدة بوسائل مُصطنعة. تسعى الإمبراطورية إلى التماسك بين الشعوب والثقافات والمصالح المُتباينة من خلال مُضاعفة التحالفات السطحية. لكن الحديد لا يلتصق بالطين. قد تصمد الهياكل لفترة من الوقت، بالقوة أو الخوف أو الدعاية، لكنها لا تُصبح وحدة حقيقية. ما ينقص هو التماسك الداخلي والعدالة والحقيقة., صدقة, باختصار، كل ما يأتي من مملكة متجذرة في الله.
بالنسبة للمؤمن، فإن إدراك هذه الهشاشة البنيوية ليس ضربًا من السخرية، بل دعوة إلى اليقظة الروحية. هذا يعني عدم إضفاء طابع مطلق على ما هو نسبي، وعدم الخلط بين المدينة الأرضية ومدينة الله. يمكن للمرء أن يحب وطنه، وينخرط في السياسة، ويعمل في المؤسسات، ولكن دون أن يعبدها. يُذكرنا التمثال بأن كل ما لا يقوم على أساس الله مصيره إلى التراب.
يتطلب هذا أيضًا قدرًا من الحرية الداخلية في مواجهة الأزمات التاريخية. فعندما ينهار نظام، أو تنهار معالم سياسية أو اقتصادية، يكون الإغراء هو الخوف أو اليأس. يقدم نص دانيال منظورًا آخر: هذه الاضطرابات هي أيضًا لحظات حقيقة يكشف فيها الله ما يدوم حقًا. المسيحيون إننا مدعوون إلى اجتياز هذه الأوقات ليس كمتفرجين مذعورين، بل كشهود لمملكة لا تتراجع.
وأخيرًا، تعكس هشاشة الإمبراطوريات هشاشة "ممالكنا" الشخصية الصغيرة. كلٌّ منا يبني تماثيل داخلية: صورة الذات، النجاح، التقدير، وبعض الروابط العاطفية المثالية. قد تكون هذه التماثيل رائعة ومُعجبًا بها، لكنها أحيانًا ترتكز على أسس صلبة: الخوف من عدم الحب، والحاجة إلى إثبات الذات، والسعي للسيطرة المطلقة. يدعونا المقطع إلى أن ندع الله يسحق هذه التماثيل ليبني الحياة على أساس جديد.
الحجر المرفوض: ولادة مملكة من نوع مختلف
الحجر الذي ينفصل عن الجبل، دون تدخل بشري، هو جوهر الممر الرمزي. ليس فيه أيُّ شيءٍ مُلفت: لا معدن ثمين، ولا شكلٌ أنيق. يبدو فقيرًا، تافهًا، مقارنةً بالتمثال المُشعّ. لكن هذا الحجر هو الذي يمتلك فعاليةً تاريخيةً وروحيةً حقيقية. هنا، يُمكن استشعار مفارقة ملكوت الله بأكملها: ما يبدو ضعيفًا يُدمّر ما كان يعتقد أنه لا يُقهر.
إن كون هذا الحجر لم يُقطع بأيدي بشرية يدل على أصل إلهي بحت. فهو لا يتوافق مع منطق المشاريع البشرية الكبرى، وليس نتاج عبقرية سياسية أو ثورة مُدبَّرة. إنه يفلت من حسابات الأقوياء. يُمثل هذا الحجر مبادرة الله السيادية، وحريته في زيارة شعبه وتوجيه التاريخ وفق مساره الخاص. إن الملكوت الناتج عنه ليس نتاج ثقافة، بل هبة.
بضربه للأقدام، يكشف الحجر عن جوهر الإمبراطوريات. فهو لا يهاجم الرأس الذهبي، كما لو أن القضية المحورية هي مجرد تغيير القادة. ولا يستهدف المعدن الأشد صلابةً فحسب، كما لو أن كل شيء يتوقف على مواجهة مباشرة. إنه يلامس المنطقة التي تتشابك فيها القوة والضعف، حيث يحاول الطموح البشري إخفاء عيوبه. لا يكتفي الله بتصحيح المظهر الخارجي؛ بل يكشف الحقيقة العميقة للتصورات البشرية.
لكن الحجر ليس مجرد أداة للحكم، بل هو بذرة مملكة. يُبرز النص نموها: فتصبح جبلًا عظيمًا يملأ الأرض بأسرها. تُجسّد الصورة حضورًا تدريجيًا صبورًا، يتسع نطاقه دون أن يفقد صلابته. هذه المملكة لا تستبدل الإمبراطوريات بأخرى أقوى، وفقًا لمنطق التنافس. بل تُدشّن أسلوبًا جديدًا لسكن الأرض: لم تعد تحت سيطرة تماثيل ضخمة مُرعبة، بل في ظل جبل راسخ.
بالنسبة للقارئ المسيحي، يُذكّر هذا الحجر، تلقائيًا، بشخصية المسيح، "حجر الزاوية"، "الحجر المرفوض"، الذي اختاره الله. والمنطق واحد: ما يراه العالم تافهًا وهامشيًا، ومخالفًا لمعايير السلطة الاعتيادية، يُصبح مركزًا لمملكة راسخة. ويبدو الصليب، من هذا المنظور، كلحظة اصطدام الحجر بالتمثال نهائيًا: تتحد قوى هذا العالم ضد المسيح، وهنا تحديدًا يتجلّى انتصار ملكوت الله.
لا تتكشف هذه المملكة أساسًا من خلال الفتوحات المؤسسية، بل من خلال تحول القلوب والعلاقات والمجتمعات. إنها تغزو الأرض ليس بجيوش، بل من خلال نشر الإيمان والأمل والرجاء. حب. تُذكّر صورة الجبل أيضًا بأقوال يسوع وأفعاله عليه: تعليم التطويبات، والتجلي، والصلاة. يُمثّل الحجر المُتحوّل إلى جبل المسيح مؤسسًا شعبًا جديدًا، مُلتفًّا حول كلمته وحضوره.
الأمل المسيحي والتمييز التاريخي
لا يقتصر نص دانيال على تقديم تفسير رمزي للماضي فحسب، بل يُعزز موقفًا ثاقبًا لدى المؤمنين في كل العصور. إن إدراك أن "المملكة الأخيرة ستسحق وتُهلك كل الممالك الأخرى" لا يدعو إلى الفرار من العالم ولا إلى التفاخر الديني، بل إلى أملٍ واضحٍ وملتزم.
أولاً، رجاءٌ واضح. لا ينكر النص حقيقة الإمبراطوريات، بل يُقرّ بقوتها وقدرتها على السيطرة على الأراضي والشعوب. المؤمن ليس مدعواً للعيش في عزلة، متجاهلاً المخاطر السياسية والاقتصادية والثقافية. بل هو مدعوٌّ لرؤيتها في ضوء الله: قوية، لكنها نسبية؛ مُهيبة، لكنها فانية. هذه الرؤية الواضحة تُمكّننا من تجنّب السذاجة (عبادة نظام) والسخرية (الاعتقاد بأن كل شيء متساوٍ).
ثم يأتي الرجاء الملتزم. إن إدراكنا أن ملكوت الله باقٍ إلى الأبد لا يعفينا من العمل في الحاضر، بل على العكس، يُحررنا للعمل غير الأناني، الذي لا يهدف إلى إنقاذ نظامٍ مُعين، بل إلى الشهادة للقيم التي ينبع منها الملكوت: العدل والرحمة والحق والسلام. وهكذا، يستطيع المسيحيون العمل من أجل الصالح العام، ودعم القضايا العادلة، وإدانة الظلم، دون خلط أي مشروع بشري مع تحقيق مشيئة الله في نهاية المطاف.
وهذا الأمل يدعو أيضًا إلى شيء معين التواضع كنسي. لطالما أُغرِيَ تاريخ الكنيسة باعتبار نفسها تمثالاً من معدن ثمين، لا يتزعزع كمؤسسة تاريخية. يُذكرنا نص دانيال بأن حجر الله وحده، أي المسيح وملكوته، هو الثابت حقًا. يمكن للأشكال التاريخية للكنيسة أن تتغير، وأن تُطهَّر، وأن تنهار أحيانًا هنا وهناك، دون أن يتأثر جوهر الملكوت. هذا التواضع يفتح الباب للإصلاح والتغيير.
وأخيرًا، يلامس التمييز التاريخي المستوحى من دانيال الحياة الداخلية لكل مؤمن. فكل شخص يمر بـ"إمبراطوريات" مُنهارة: مشاريع مُجهضة، وأوراق مالية مفقودة، وعلاقات مُحطمة. ويمكن للتمثال المُحطم أن يرمز إلى هذه الانهيارات الشخصية. وفي قلب هذه الأنقاض الظاهرة، يُعلن النص أن مملكةً باقية، وأن حجرًا صامدًا، وأن جبلًا ينمو. لا يكمن الرجاء المسيحي في إنكار الخسارة، بل في الإيمان بأنه لا فشل ولا سقوط يُمكن أن يمنع الله من بناء ملكوته بقلبٍ مُنفتح.

«"المملكة التي لا تزول"»
فسرت التقاليد المسيحية سريعًا حلم نبوخذنصر على أنه نذير لمملكة المسيح. ارتبط الحجر، الذي لم تُقطعه يد بشرية، بالميلاد من عذراء، والصليب،, القيامة, باختصار، بكل ما في حياة يسوع مما يفلت من التصنيفات التقليدية للسلطة. رأى العديد من المؤلفين القدماء في التمثال تعاقب الإمبراطوريات الوثنية العظيمة، التي بلغت ذروتها بمجيء المسيح الذي دشن مملكة روحية وعالمية.
كثيراً ما أكّد آباء الكنيسة على التباين بين التمثال، عمل الإنسان، والحجر، عمل الله. ورأوا في ذلك نقداً ضمنياً لكل عبادة أصنام سياسية أو دينية: فالبشر يصنعون صوراً للسلطة تناسب أغراضهم، لكن الله يُسقط هذه الأصنام ليُرسّخ العبادة بالروح والحق. وقد فُهم تحطيم المعادن على أنه نهاية الطوائف الوثنية وانتصار الإله الواحد، الذي تجلّى في يسوع المسيح.
في اللاهوت القروسطي، كان يُقرأ هذا النص أحيانًا من منظور تاريخي خلاصي، كلوحة فنية رائعة لتاريخ الخلاص: فبعد الإمبراطوريات القديمة، يأتي زمن الكنيسة، علامة الملكوت وأداته، الحاضرة بالفعل، ولكنها لم تتجلى بالكامل بعد. ثم يُستحضر الحجر الذي أصبح جبلًا نمو الشعب المسيحي عبر العصور، رغم الاضطهادات والأزمات. وقد ركّزت الليتورجيا، على وجه الخصوص، على هذا المقطع لتُغذّي الوعي بإلهٍ يقود التاريخ نحو ذروةٍ يُعترف فيها بملكه من قِبل الجميع.
في الروحانية المعاصرة، يجد هذا النص صدىً جديدًا في مواجهة الانهيارات الأيديولوجية والأزمات العالمية. يُذكرنا بأنه لا الأنظمة الشمولية، ولا الإمبريالية الاقتصادية، ولا اليوتوبيا التكنولوجية، قادرة على ادعاء الكلمة الفصل. لا ينبغي الخلط بين الملكوت الذي أعلنه دانيال وأي مشروع بشري، ولكنه يُلهم أشكالًا من الحياة الجماعية حيث تُحترم كرامة كل شخص، والعدالة، و... سلام إنها أكثر من مجرد شعار: إنها مطلب متجذر في ملكية المسيح.
وهكذا، من قرن إلى قرن، سمع التقليد المسيحي في هذه الرؤية دعوة إلى تغيير الأمل: إلى ترك الانبهار بتماثيل اللحظة، والالتصاق بالحجر الحي، بالملكوت الآتي، الحكيم والقوي، للحكم على التاريخ وإنقاذه.
«"المشي على الصخرة"»
- الوقوف في الداخل أمام التمثال: تخيل هذا الشكل الهائل المصنوع من معادن مختلفة، والسماح للارتفاع في داخلنا صور "الإمبراطوريات" التي تبهرك اليوم: القوى السياسية والاقتصادية والإعلامية، ولكن أيضًا التماثيل الشخصية الصغيرة المبنية حول الأنا أو نظرة الآخرين.
- التأمل في الحجر الساقط من الجبل: إدراك أنه ليس نتاج جهد بشري، بل مبادرة إلهية مجانية. طلب نعمة الإيمان بأن الله، في حياتنا الشخصية كما في تاريخ العالم، يعمل بما يتجاوز حسابات البشر.
- إعادة النظر في انهياراتنا: تحديد المواقف التي انهار فيها ما بدا صلبًا. بدلًا من البقاء في الندم أو الاستياء، علينا تقبّل احتمال أن تكون هذه "التحطيمات" قد فتحت مجالًا لأساسٍ أكثر صدقًا وتواضعًا، وأكثر رسوخًا في الله.
- تأمل في الملكوت الذي لا يزول: تذكّر أن هذا الملكوت يتجلى في أعمال العدل والرحمة والحق. اسأل نفسك: أين يسعى ملكوت الله اليوم، عمليًا، إلى النمو من خلال اختياراتي وعملي وعلاقاتي؟
- تقديم مخاوف المرء تجاه المستقبل إلى الله: مشاركتها في الصلاة، ووضعها على الحجر. طلب نعمة رجاء لا يعتمد على الاستقرار الظاهري للأنظمة البشرية، بل على... وفاء من الإله الذي يجعل جبله ينمو في الخفاء.
- اختتم بصلاة الثقة: تسليم حياتك لله، وحياة الكنيسة والعالم، وتكرار في داخلك أن ملكوته سوف يدوم إلى الأبد.
خاتمة
إن رؤية التمثال والحجر تُواجه كلاً منا بقرار داخلي: إما اختيار طريق المعادن البراقة الآسرة التي ستُصبح تراباً، أو الاعتماد على الحجر البسيط الذي يصبح جبلاً ويملأ الأرض. ليس نص دانيال مجرد تصوير نبوي للماضي؛ بل هو كلمة حية تكشف، حتى اليوم، أوهامنا وتفتح لنا طريقاً نحو الحرية.
إن إدراك أن "المملكة الأخيرة ستسحق وتدمر كل ما سواها، لكنها ستبقى إلى الأبد" هو تقبّل أن لا شيء قائم على الله يدعي البقاء. قد يبدو هذا تهديدًا لشعورنا بالأمان، لكنه في الواقع تحررٌ عظيم: فقيمة الحياة لا تتوقف على مكانتها في نظام معين، أو نجاحها، أو تقديرها. بل تكمن في الاستجابة لنداء الملكوت، وفي الترحيب بالحجر الذي يرسله الله، وفي السماح لهذا الملكوت بتشكيل خياراتنا الملموسة.
هذه الدعوة ليست مجردة. إنها تدعونا إلى تغيير في المنظور (التخلي عن عبادة تماثيل اللحظة)، وفي القلب (وضع ثقتنا المطلقة في الله)، وفي العمل (العيش وفقًا لقيم الملكوت). التحدي ثوري: أن نصبح، في قلب إمبراطوريات زائلة، مواطنين في ملكوت لا يتزعزع، قادرين على الصمود في وجه تقلبات التاريخ بأمل راسخ.
عملي
- حدد كل مساء "تمثالًا" داخليًا (خوف، طموح، صورة ذاتية) وضعه صراحةً بين يدي الله.
- إن القراءة المنتظمة للمقاطع الكتابية التي تتحدث عن ملكوت الله تغذي الأمل المتجذر في مكان آخر غير الأحداث الجارية.
- في كل أسبوع، اتخذ إجراءً ملموسًا من العدالة أو الرحمة، مهما كان متواضعًا، كمشاركة فعالة في الملكوت.
- ممارسة وقت من الصمت للتأمل داخليًا في الحجر الذي أصبح جبلًا، وطلب قلب مستقر وسط التغييرات.
- إعادة قراءة الأحداث العالمية مع المؤمنين الآخرين، لنتعلم معًا التمييز بين ما ينتمي إلى التماثيل وما ينتمي إلى الملكوت.
- عندما ينشأ القلق بشأن المستقبل، كرر صلاة قصيرة للاستسلام لله الذي لن يزول ملكوته أبدًا.
مراجع
- سفر النبي دانيال، الإصحاحات 1-7 (السياق السردي ورؤى الممالك).
- الأناجيل الإزائية :كلمات يسوع عن ملكوت الله وحجر الزاوية.
- كتابات آبائية عن كتاب دانيال (قراءات مسيحية عن الحجر والممالك).
- نصوص العصور الوسطى والليتورجية عن ملكية المسيح والمملكة الأبدية.
- وثائق مرجعية حول الرجاء المسيحي والتمييز التاريخي.
- التعليقات الكتابية المعاصرة كتاب دانيال, ، وخاصة في الفصل الثاني.
- أعمال روحانية مسيحية تتناول موضوع ملكوت الله في الحياة اليومية.


