تكلم دانيال وقال: "في الليل، رأيتُ في رؤياي. رياح السماء الأربع تُهيّج البحر العظيم. وخرج من البحر أربعة وحوش عظيمة، كلٌّ منها مُختلف عن الآخر.
كان الأول أسدًا بجناحي نسر. وبينما كنت أراه، تمزقت أجنحته، فرُفع عن الأرض ووقف على رجليه كإنسان، ووُهب له قلب إنسان.
وكان الحيوان الثاني شبيهًا بالدب، واقفًا نصف منتصب، وله ثلاثة أضلاع في فمه بين أسنانه. فقالوا له: «قم، كُل لحمًا كثيرًا!»
نظرتُ، فرأيتُ حيوانًا آخر، كالنمر، له أربعة أجنحة طيور على ظهره وأربعة رؤوس. أُعطيَ له السيادة.
ثم نظرتُ في الليل، فرأيتُ حيوانًا رابعًا، مُرعبًا ومُرعبًا، وقويًا جدًا، له أسنان حديدية هائلة، يلتهم ويمزق ويدوس ما تبقى. كان مختلفًا عن الحيوانات الثلاثة الأخرى، وله عشرة قرون.
وبينما كنتُ أتأمّل هذه القرون، ظهر بينها قرنٌ آخر أصغر من الأول، وقد انقطعت ثلاثةٌ من القرون الأولى من أمامه. وكان لهذا القرن عيونٌ كعيون البشر، وفمٌ ينطق بكلامٍ عظِيم.
راقبتُ: وُضعت عروش، وجلس شيخٌ على عرشه؛ ثيابه بيضاء كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي؛ عرشه مصنوع من لهبٍ مُلتهب، وعجلات من نارٍ مُتوهجة. فاض نهرٌ من نارٍ من أمامه. خدمه آلافٌ وآلاف؛ وقف أمامه آلافٌ لا تُحصى. انعقدت المحكمة، وفُتحت الكتب.
نظرتُ، وسمعتُ الكلامَ المتعجرفَ الذي قذفه القرن. نظرتُ، فإذا بالوحش يُقتل، ويُلقى بجثته في النار. أما بقية الوحوش، فقد سُلبت سلطتها، ولكن مُنحت إعفاءً لفترةٍ ووقتٍ محددين.
في رؤى الليل، رأيتُ مثل ابن إنسان آتيًا مع سحاب السماء. جاء إلى القديم الأيام، وقُدِّم أمامه. وأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا، لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي لا يزول، وملكوته لا ينقرض.»
عندما تقلب السماء الإمبراطوريات: الرؤية التي تغير كل شيء
المستقبل لمن يأتي على السحاب..
هل تشعر أحيانًا بالسحق من عنف العالم؟ الأنظمة التي تسحق الضعفاء، والقوى التي تكذب بلا خجل، والشعور بأن قوى الشر قد انتصرت بالفعل؟ دانيال يشعر بذلك أيضًا. نُفي إلى بابل، ونُفي بعيدًا عن وطنه، وعاش تحت وطأة إمبراطورية مرعبة. ومع ذلك، في إحدى الليالي، تلقى رؤيا حطمت كل اليقينيات. ما رآه لم يكن ليخطر ببال الأقوياء. إنه إعلان انقلاب كامل، انتصار لا نهاية له. وهذا الوعد يهمنا مباشرةً.
هذا النص من دانيال 7 يُمثل هذا نقطة تحول في الكتاب المقدس بأكمله. يُظهر لنا أن التاريخ البشري ليس ملكًا للطغاة، بل لشخصية غامضة تأتي "مع سحاب السماء". سيحظى ابن الإنسان هذا بملك أبدي. إليكم ما سنكتشفه معًا: أولًا، كابوس الوحوش الأربعة وما يكشفونه عن أنظمتنا؛ ثانيًا، ظهور الإنسان العتيق والمحكمة السماوية التي تُعيد العدل؛ ثم ابن الإنسان وسلطانه الذي يُغير كل شيء؛ وأخيرًا، كيف تُغير هذه الرؤية أسلوب حياتنا اليوم.
بابل والمنفى وصراع الإمبراطوريات
كتب دانيال في القرن السادس قبل الميلاد، أثناء السبي البابلي. شهد شعب إسرائيل تدمير القدس، وهدم الهيكل، ونخبته تُؤخذ قسرًا إلى أرض غريبة. هناك، في بابل، حكمت قوة جبارة قاسية، اعتبرت نفسها خالدة. أقام نبوخذنصر تماثيل ضخمة، ونظم عروضًا عسكرية، وفرض لغته وثقافته وعنفه.
في هذا الجو الخانق، تلقى دانيال رؤى. يُعدّ الإصحاح السابع النقطة المحورية في الكتاب. قبله، كانت هناك في الغالب روايات (عرين الأسود، والفتيان الثلاثة في أتون النار). بعد ذلك، تأتي رؤى نهاية العالم الكبرى. يُدشّن هذا الإصحاح نوعًا أدبيًا جديدًا: نهاية العالمهذا الكشف عن المعنى الخفي للتاريخ. ليس الأمر متعلقًا بتنبؤات غامضة، بل كشفٌ عمّا يحدث في الواقع خلف المظاهر.
يضع النص الرؤيا "في الليل". الليل وقت عذاب، ولكنه أيضًا وقت وحي إلهي. ينظر دانيال إلى "البحر العظيم"، الذي تحركه رياح السماء الأربع. في الصور التوراتية، يرمز البحر إلى الفوضى البدائية، والتهديد الدائم، والمكان الذي ينبع منه الخطر. من هذا البحر، تخرج أربعة وحوش وحشية، كل منها أشد رعبًا من سابقه.
تُمثل هذه الوحوش الإمبراطوريات المتعاقبة: بابل، الميديون، الفرس، الإغريق. لكن أهميتها تتجاوز قصة دانيال المباشرة. إنها تُجسد كل أشكال القوة التي تسحق وتفترس وتدوس. الأسد بجناحيه كالنسر يُجسد قوةً وحشيةً ممزوجةً بالسرعة. الدب الشره يبتلع بلا حدود. النمر ذو الرؤوس الأربعة يُضاعف سيطرته. أما الوحش الرابع؟ فهو لا يُوصف. مُريع. قويٌّ للغاية. يمتلك أسنانًا من حديد وعشرة قرون، رموزًا للهيمنة المطلقة.
القرن الصغير الذي يبرز في المنتصف يجسد كل الغطرسة. له عينان بشريتان وفم "ينطق بكلام هذيان". حرفيًا: كلمات تتحدى الله نفسه. ينذر هذا الشكل بجميع الطغاة المستقبليين الذين يدّعون تغيير الواقع، ويكذبون للاستعباد، وينتهكون الحقيقة للحفاظ على سلطتهم.
هذا هو العالم كما يبدو: سلسلة من الوحوش تلتهم بعضها بعضًا قبل أن تلتهمنا. ولا بد أن دانيال، وهو يشاهد هذا المشهد، يشعر بالعجز التام.
محكمة القدماء: عندما يستعيد الله السيطرة
لكن الرؤية تتغير. فجأةً، "وُضِعَت عروش". لاحظوا الجمع: ليس عرشًا واحدًا، بل عروشًا متعددة. أُقيمت محكمة سماوية. وفي قلبها شخصيةٌ عميقة: "الرجل العجوز"، الذي تُطلق عليه ترجماتٌ أخرى "قديم الأيام". يُشير هذا التعبير العبري إلى الكائن قبل كل شيء، المتجاوز للعصور، الذي كان موجودًا عندما لم يكن شيء موجودًا بعد.
ثيابه بيضاء كالثلج، وشعره كالصوف النقي. بياضٌ مُطلق، طهارةٌ تامة. عرشه؟ مصنوع من لهيب، بعجلاتٍ من نارٍ مُلتهبة. في الكتاب المقدس، تُمثل النار الوجود الإلهي نفسه. تُطهر، تكشف، تُدمر الباطل. نهرٌ من نارٍ ينفجر أمامه، صورةً للقداسة التي تُحرق كل باطل.
آلافٌ وآلافٌ يخدمونه. أمامه آلافٌ وآلافٌ تقف. هذه الأعدادُ الهائلةُ تُشيرُ إلى اللانهاية. أمامَ هذه المحكمةِ السماويةِ، تنهارُ إمبراطورياتُ الأرضِ إلى العدم. تحلُّ المحكمةُ محلَّها. تُفتحُ الدفاترُ. كلُّ شيءٍ مُدوَّنٌ، لا شيءَ يُنسى. كلُّ فعلِ ظلمٍ، كلُّ دمعةٍ ذُرفت، كلُّ ظلمٍ ارتُكب: كلُّ شيءٍ مُدوَّن.
ثم قُتل الوحش الرابع، الذي نطق بكلماتٍ باطلة. وأُلقيت جثته في النار. حكمٌ أخير. فقدت الوحوش الأخرى سلطانها، لكنها نالت عفوًا. لم ينتهِ التاريخ البشري فجأةً، بل انكشف معناه العميق: قوى الشر مؤقتة. حكمهم مؤقت دائمًا.
يكشف هذا المقطع عن أمرٍ جوهري: الله ليس غائبًا. إنه لا يراقب الفوضى بسلبية. إنه يجلس على عرشه، يحكم، ويُعيد. يُمثل القديم الأيام السمو المطلق، ذاك الذي يتجاوز كل دورات العنف، والذي لا يمكن لأحدٍ التلاعب به. أما أمامه، فالطغاة مجرد دمى زائلة.

ابن الإنسان: مملكة لا تشبه أي مملكة أخرى
وهنا ذروة الرؤيا. يشاهد دانيال مجددًا، "في رؤى الليل"، فيرى شخصًا آتيًا "مع سحاب السماء، كابن إنسان". انتبه جيدًا: ليس من بحر الفوضى، بل من السماء، مكان الله. هذه الشخصية لا تنبع من العنف، بل من الوجود الإلهي نفسه.
تعبير "ابن الإنسان" يعني في المقام الأول "الإنسان". لكن هنا، يكتسب معنىً عميقًا غير عادي. في مواجهة الوحوش المفترسة، يظهر كائنٌ بشريٌّ أصيل. لا يُسيطر بالرعب، ولا يلتهم، ولا يدوس. يُقدَّم أمام الإنسان العجوز، فيمنحه "السلطان والمجد والملك".
هذه الهبة تُغيّر كل شيء. بخلاف الوحوش التي تستولي على سلطتها بالقوة، ينال ابن الإنسان سلطته. إنه تنصيب إلهي. سلطانه لا يقوم على الخوف، بل على الشرعية المطلقة التي يمنحها الله نفسه. جميع الشعوب والأمم، من كل لسان، سيخدمونه. ليس بالإكراه، بل لأن هذه الملكية تتوافق مع النظام الحقيقي للعالم.
والأمر الأشد لفتًا للانتباه: «سلطانه سلطان أبدي لا يزول، وملكوته ملكوت لا ينقرض». لكل حيوان زمانه. جميعها سقطت أو ستسقط. لكن هذا الملك لن ينتهي أبدًا. إنه يتجاوز العصور، ويتجاوز كل الإمبراطوريات، ويُحقق مقصد الله الأصلي للبشرية.
أدرك المسيحيون الأوائل فورًا أن يسوع هو ابن الإنسان هذا. وهو نفسه يُشير إلى نفسه في الأناجيل. خلال محاكمته أمام السنهدريم، أعلن: "سترون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير، وآتيًا على سحاب السماء". لقد ادعى هذه الهوية، هذه الرسالة، هذه الملكية. لكنه حققها بطريقة غير متوقعة تمامًا: ليس بسحق أعدائه، بل بقبوله أن يُصلب. جاء نصره من خلال الحب حتى النهاية، من خلال بذل الذات بالكامل.
هنا تكمن الفضيحة والعجب: ابن الإنسان لا ينتصر بالعنف، بل بالضعف. يهزم الوحوش ليس بأن يصبح أقوى منها، بل بكشفه عن شكل آخر من أشكال القوة، قوة الحب الذي يصل حتى الموت ويقوم من جديد.
ثلاثة أبعاد تُغيّر فهمنا للعالم
إعادة اكتشاف التضامن الإنساني في مواجهة الإمبراطوريات اللاإنسانية
تُجسّد الوحوش الأربعة أنظمةً تُنكر الإنسانية. إنها تُمثّل كل ما يُحوّل البشر إلى أرقام، إلى وقودٍ للمدافع، إلى مُستهلكين قابلين للاستغلال. الأسد، الدب، النمر، الوحش المجهول: جميعها رموزٌ لنزع الإنسانية.
لكن ابن الإنسان يُعيد الإنسانية. لا يأتي كوحش خامس، بل كإنسان فحسب. ويصبح هذا التقمص البشري موضع الوحي الإلهي. الله لا يحتقر حالتنا، بل يأخذها على عاتقه، ويُعليها، ويُتوّجها.
عمليًا، هذا يعني أن المقاومة الحقيقية للأنظمة القمعية تنبع من التضامن الإنساني. عندما ترفض معاملة شخص ما كشيء، عندما تُدرك كرامته، عندما تختار... الأخوة بدلًا من المنافسة الشرسة، تُجسّد ابن الإنسان. تُصبح رمزًا لملكه. تشهد أن الإنسانية الحقيقية أقوى من الوحوش.
فكّروا في المقاومين في ظلّ الأنظمة الديكتاتورية، أولئك الذين أخفوا المضطهدين على حساب حياتهم. فكّروا في العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يرون الناس بينما يرى النظام الملفات. فكّروا في المعلمين الذين يؤمنون بطلابهم بينما يدفعهم كل شيء إلى حصرهم في إحصائيات. كلّ اعتراف بالآخر كإنسان هو انتصارٌ لابن الإنسان على الوحوش.
العدالة الإلهية في مواجهة وهم الإفلات من العقاب
تؤكد رؤية دانيال أمرًا جوهريًا: لن يفلت الطغاة من العقاب. انعقدت المحكمة السماوية، وفُتحت الأسفار، وقُدّمت الحسابات. هذا اليقين حاضر في جميع أنحاء الكتاب المقدس. لا ظلم يبقى خفيًا عن الله، ولا إساءة استخدام للسلطة تمر دون عقاب إلى الأبد.
هذا المنظور لا يعفينا من السعي لتحقيق العدالة هنا والآن، بل على العكس، يمنحنا القوة للقيام بذلك. إذا كنا نعلم أن الشر سينتصر في النهاية، فلماذا نقاوم؟ ولكن إذا كنا نؤمن بأن قضاء الله سيُعيد كل شيء إلى نصابه، فإن كل نضال من أجل العدالة يكتسب معنىً أسمى.
انظروا إلى هذا البوق الصغير الذي ينفث هراءً وهميًا. إنه يمثل الكذب الممنهج، والدعاية التي تُقلب الحقائق رأسًا على عقب، والخير والشر. حتى اليوم، نعيش غارقين في خطابٍ مُضلِّل. تُضخِّم وسائل التواصل الاجتماعي الأخبار الكاذبة. الأقوياء يُعيدون كتابة التاريخ. جماعات الضغط تشتري الضمائر.
لكن الحقيقة تظهر دائمًا في النهاية. ليس بالضرورة فورًا، بل أحيانًا بعد عقود. لكنها تظهر. تضمن المحكمة السماوية أن الباطل لن ينتصر أبدًا. هذا لا يعني أن ننتظر مكتوفي الأيدي. بل على العكس، نحن مدعوون للشهادة على الحقيقة، ولإدانة الباطل، ولرفض التواطؤ الصامت.
كل مُبلّغ عن مخالفات، وكل صحفي نزيه، وكل مواطن يرفض التلاعب به، يُشارك في عمل الدينونة الإلهية. قول الحقيقة، حتى لو كان خطيرًا، حتى لو كان مُكلفًا، هو استباقٌ لدينونة الله.
دعوة الصبر والأمل في مواجهة اليأس
يرى دانيال الوحوشَ تحكم. يرى الرعبَ يسيطر. لكنه يرى أيضًا نهايتهم. هذه الرؤية المزدوجة تُغيّر كل شيء. نحن نعرف إلى أين يتجه التاريخ. ليس لأننا نملك كرةً بلورية، بل لأن الله كشف خطته: ابن الإنسان سينال مُلكًا أبديًا.
هذا الأمل ليس ساذجًا. إنه لا ينكر وحشية الحاضر. دانيال لا يُجمّل شيئًا. الوحوش تلتهم، تُمزّق، تدوس. الشر حقيقي، هائل، مُرعب. لكنه ليس الكلمة الفصل. هذا هو الفرق الجذري بين التفاؤل السعيد والأمل المسيحي.
يقول التفاؤل: "كل شيء سيسير على ما يرام". ويقول الأمل: "سيُحقق الله وعده، لكن هذا يتطلب تجاوز الشر، والصراع، و..." وفاء في المحنة. هذا الأمل يتطلب الصبرليس الاستسلام السلبي، بل المثابرة النشطة.
عندما تُكرّس نفسك لقضية عادلة، وتكون النتائج بطيئة، وعندما تُربي أبناءك على الإيمان رغم اللامبالاة المنتشرة، وعندما تُقاوم الفساد بينما يستسلم له الجميع، فإنك تُجسّد هذا الصبر. أنت تشهد أن النصر النهائي لابن الإنسان لا يعتمد على الانتصارات الفورية، بل على... وفاء على المدى الطويل.
عبّر الرسول بولس عن ذلك ببلاغة: "نحن متضايقون، لكن غير منسحقين، محتارون، لكن غير يائسين". هذا هو موقف من يفهم رؤيا دانيال. يعلم أن الوحوش تزأر، لكن وقتها قصير.

أوغسطينوس ويوحنا والتقاليد التي تكشف هذه الرؤية
لم تبقَ رؤية دانيال هذه حبرًا على ورق، بل تغلغلت في الفكر المسيحي بأكمله. القديس أوغسطينفي "مدينة الله"، يستلهم من هذا ليميز بين منطقين فاعلين في التاريخ. من جهة، المدينة الأرضية، المبنية على حب الذات حتى احتقار الله. ومن جهة أخرى، المدينة السماوية، المبنية على حب الله حتى احتقار الذات.
تنتمي حيوانات دانيال الأربعة إلى المدينة الأرضية. إنها تُجسّد منطق الهيمنة والتنافس والعنف. لكن ابن الإنسان يُدشّن المدينة السماوية. مُلكه لا يقوم على القوة، بل على المحبة والخدمة. كتب أوغسطينوس في القرن الخامس، بينما كانت روما تنهار. يتهم البعض... المسيحية لإضعاف الإمبراطورية. يُجيب أوغسطينوس: كانت الإمبراطورية الرومانية بالفعل إحدى وحوش دانيال، وكل الوحوش تزول. لم يبقَ إلا ملك المسيح.
جان، في نهاية العالمإنه يُردد بوضوح صورة دانيال. فهو أيضًا يرى وحشًا ضاريًا يخرج من البحر، مُجدِّفًا على الله. ويرى أيضًا المحكمة السماوية، الحمل المذبوح يأخذ السفر المختوم ويكشف عن معنى التاريخ. ويؤكد أن "مملكة العالم قد صارت ملكوت ربنا ومسيحه".
يُظهر هذا الترابط بين دانيال ويوحنا أن الرؤيا لم تكن فضولاً غريباً، بل أصبحت العدسة المسيحية التي يُنظر من خلالها إلى التاريخ. اعتمد شهداء القرون الأولى، في مواجهة روما الإمبراطورية، على هذا اليقين: الإمبراطور ليس سوى وحش بين وحش آخر، وسلطانه سيزول. لقد انتصر ابن الإنسان بالفعل.
تحتفل الليتورجيا المسيحية بهذا النصر كلما أعلنت: "المسيح ملك". ليس ملكًا على غرار الإمبراطوريات، بل هو الملك الذي يغسل أقدام تلاميذه، ويحمل صليبه، ويقوم من بين الأموات. ملكوته يتجاوز جميع الأنظمة السياسية. لا يُعرّف بأيٍّ منها، بل يُدينها جميعًا.
في العصور الوسطى، صوّر الرسامون المسيح في جلال، محاطًا بالحيوانات الأربعة التي ترمز إلى الإنجيليين. لكن هذه الحيوانات لم تعد وحشية، بل أصبحت رموزًا للبشارة. الأسد (مرقس)، الثور (لوقا)، الإنسان (متى)، النسر (يوحنا): جميعها تخدم إعلان ابن الإنسان. ما كان علامة رعب أصبح علامة خلاص. هذه هي القوة المُغيّرة لملك المسيح.
ست طرق لتجربة هذه الملكية الآن
كيف تُلامس رؤية دانيال حياتنا اليومية؟ ليس كعقيدة مجردة بالأساس، بل كدعوة لعيش حياة مختلفة. إليكم ستة اقتراحات عملية.
أولاً، تعلموا كيف تتعرفون على وحوش عصرنا. ربما لم تعد لها قرون، لكنها لا تزال تعمل. الأنظمة الاقتصادية التي تُنتج مليارديرات بينما يتضور الأطفال جوعاً، والأنظمة التي تسجن المعارضين، والأيديولوجيات التي تُجرّد المختلفين في الرأي من إنسانيتهم: هذه كلها وجوه معاصرة لوحوش دانيال. لا تخشوا قوتها الظاهرة. تذكروا: إنها تزول، لكن ابن الإنسان باقٍ.
ثانيًا، اختر أعمالًا إنسانيةً راديكالية. في كل مرة تعامل فيها شخصًا باحترام، بينما المنطق السائد يدفعك إلى تجاهله أو سحقه، فإنك تُثبت ملكوت ابن الإنسان. قد يكون هذا كلمة تشجيع لزميلٍ يُعاني، أو رفضًا للمشاركة في عملية إعدامٍ جماعيٍّ على مواقع التواصل الاجتماعي، أو لفتةً لطيفةً تجاه أمين الصندوق في السوبر ماركت.
ثالثًا، غرسوا فينا صلاةً تأمليةً تتجاوز المظاهر. تلقى دانيال رؤياه "في الليل". علينا أن نكون مستعدين للانسحاب من ضجيج العالم، والصمت، لندرك ما يكشفه الله. خصصوا عشر دقائق يوميًا للتأمل في يومكم في ضوء الإنجيل. أين رأيتم الوحوش تعمل؟ أين تعرفتم على ابن الإنسان؟
رابعًا، ناضلوا من أجل العدالة، ولكن دون أوهام مسيحية. لن تُنقذوا العالم بمفردكم، لكن كل عمل صالح يُسهم في تهيئة الملكوت. ادعموا منظمة حقوق إنسان، وشاركوا في مبادرة تضامن محلية، وصوّتوا بما يُمليه عليكم ضمائركم. هذه المبادرات ليست هينة، بل تُجسّد ملكوت المسيح في واقع ملموس.
خامسًا، اشهدوا للرجاء المسيحي. من حولكم، يعيش كثيرون في قلق أو سخرية. يرون الوحوش، ولا يرون ابن الإنسان. طريقتكم في الحديث عن المستقبل، وفي التعامل مع الأزمات، وفي الحفاظ على الإيمان رغم النكسات: كل هذا شهادة. ليس بإنكار الصعوبات، بل بالإشارة إلى نصرٍ مُحرز.
سادسًا، المشاركة في القداس بوعي متجدد. كل القربان المقدس يتوقع الوليمة النهائية حيث سيجتمع جميع الناس. كل معمودية تغرق في الموت و القيامة ابن الإنسان. كلُّ غفرانٍ يُمنح أو يُقبل يُظهر الانتصار على منطق الانتقام. القداس ليس هروبًا، بل هو انغماسٌ في الحقيقة المطلقة.
اللحظة التي يتغير فيها كل شيء للأفضل
لقد وصلنا إلى نهاية رحلتنا. لقد قادتنا رؤيا دانيال عبر كابوس الإمبراطوريات، وسمحت لنا بمشاهدة المحكمة السماوية، والتأمل في مجيء ابن الإنسان. ماذا نتعلم منها؟
أولاً، التاريخ ليس ملكاً للأقوياء. إنهم يُحدثون ضجيجاً، ويسحقون، ويُرهبون. لكن حكمهم مؤقت. كل الوحوش تسقط، وكل الطغاة ينهارون. لا هيمنة قائمة على العنف تدوم إلى الأبد. هذه القناعة تُمكّننا من المقاومة دون يأس، والقتال دون كراهية، والمثابرة دون تثبيط.
علاوة على ذلك، الله ليس غائبًا. الشيخ جالس على عرشه الناري. الكتب مفتوحة. لا شيء يغيب عن ناظريه. كل دمعة تُحصى، وكل ظلم يُدان، وكل حقيقة تُكشف. هذا لا يعني أن ننتظر مكتوفي الأيدي. بل على العكس، فإن المحكمة السماوية تدعونا للعمل الآن وفقًا لعدل الله.
أخيرًا، نال ابن الإنسان السيادة الأبدية. نصره لا يعتمد على نجاحاتنا أو إخفاقاتنا، بل يتحقق بموته وقيامته. ليس علينا أن نثبته، بل أن نشهد له، وأن نظهره، وأن نجعل حياتنا متوافقة معه. تتكشف هذه الملكية كلما انتصر الحب على الكراهية، وانتصر الحق على الباطل، و... الأخوة يحطم جدران اللامبالاة.
هذه هي رسالة دانيال الثورية: ستزول الإمبراطوريات، لكن ابن الإنسان باقٍ. سيسقط الطغاة، لكن مملكته لن تزول أبدًا. لذا، كفوا عن العيش كما لو أن الكلمة الأخيرة للوحوش. كفوا عن التخويف من زئيرها. كفوا عن الاستسلام للسخرية والاستسلام.
عيشوا كمواطنين في الملكوت الأبدي. تصرفوا كما لو أن ابن الإنسان يملك بالفعل، لأنه يملك بالفعل. قاوموا منطق الموت، وانشروا أعمالًا إنسانية، وأعلنوا الأمل. يحتاج العالم إلى شهود يؤمنون بأن التاريخ لا ينتهي بالفوضى، بل ينفتح على ملكوت لا نهاية له.
وعندما يبدو الليل طويلاً، وعندما تبدو الوحوش لا تُقهر، تذكروا: رأى دانيال أيضًا الرعب. لكنه رأى أبعد من ذلك. رأى شخصًا آتيًا على السحاب، مُتسلّمًا كل السلطة، جامعًا كل الشعوب. لم تكن هذه الرؤية عزاءً عابرًا، بل كانت إعلانًا لما يجري تحقيقه بالفعل.
أنتم مدعوون للانضمام إلى هذه الملكية. ليس بالقوة، بل بالمحبة. ليس بالهيمنة، بل بالخدمة. ليس بالسحق، بل بالرفع. هذه هي الثورة التي يدشنها ابن الإنسان. إنها لا تتصدر عناوين الصحف، ولا تفرض نفسها بقوة السلاح. لكنها تُغيّر كل شيء من الداخل. تُبعد الوحوش. تُبشّر بفجر عالم جديد.
فانهضوا. ارفعوا رؤوسكم. ابن الإنسان آتٍ على السحاب. لقد بدأ ملكه بالفعل. وأنتم مدعوون لإظهاره من اليوم.

سبع ممارسات لتجسيد هذه الرؤية
اقض خمس دقائق كل صباح في قراءة مقطع من الإنجيل يظهر يسوع باعتباره ابن الإنسان، والتأمل في كيفية ممارسته لملكه من خلال الحب والخدمة بدلاً من الهيمنة.
حدد "الوحش" المعاصر في بيئتك، سواء كان نظامًا غير إنساني أو منطق القمع، وقم بعمل ملموس للمقاومة اللاعنفية هذا الأسبوع.
مارس فحصًا ذاتيًا يوميًا عن طريق سؤال نفسك أين تعرفت على وجه ابن الإنسان اليوم وأين ربما استسلمت لمنطق الوحوش.
المشاركة في عمل تضامني مستدام، سواء محليًا أو دوليًا، لإظهار ذلك الأخوة أقوى من الأنظمة التي تقسم وتسحق.
رفض المشاركة في خطاب الكراهية أو التلاعب، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، واختيار نقل كلمات الحقيقة والأمل حتى عندما تبدو غير مهمة.
المشاركة في القربان المقدس بوعي متجدد، نرى فيه ترقبًا للوليمة الأخيرة حيث سيجمع ابن الإنسان كل الشعوب في ملكوته الأبدي.
شارك هذا الأمل مع شخص واحد على الأقل محبط هذا الشهر، وذكره بأن الإمبراطوريات تزول ولكن انتصار المسيح يبقى إلى الأبد.
مراجع
دانيال 7, 2-14 (النص المصدر)
كتاب نهاية العالمالفصول 4-5، 13، 19-22 (روايات يوحنا لرؤية دانيال)
القديس أوغسطينمدينة الله، الكتابان الرابع عشر والتاسع عشر (التمييز بين المدينة الأرضية والمدينة السماوية)
الأناجيل الإزائية, الآيات التي تتحدث عن ابن الإنسان (خاصة متى 24-25، مرقس 13-14، لوقا 21-22)
التقليد الآبائي حول التفسير المسيحي لابن الإنسان (إيريناوس ليون، أوريجانوس)
قداس المسيح الملك وقراءات الموسم مجيء المسيح (السياق الليتورجي لـ دانيال 7)
التعليقات التفسيرية المعاصرة على كتاب دانيال (السياق التاريخي واللاهوتي)
تصوير العصور الوسطى للمسيح في جلالته محاطًا بالمخلوقات الحية الأربعة (التقليد البصري للرؤية)


